عندما يتكرر التاريخ: رؤى من غزة وما بعدها
“الأحداث التاريخية لا تتكرر، لكن أحياناً تضحك علينا بتكرار نفس الوجوه في مشاهد جديدة.”
يعود اسم [جاريد كوشنر]، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ليظهر مجدداً كما لو أن دورة التاريخ تدور مرة أخرى في حلبة السياسة العالمية، حيث تتداخل المصلحة مع الأوهام، وتلتقي الخرائط مع الدم. كوشنر، الذي كان له دور محوري في ما عُرف بـ”صفقة القرن”، يخرج الآن من الظل ليظهر بوجه مختلف في زمن يتسم بالشمولية: زمن “غزة بعد الحرب”.
ليس من قبيل الصدفة أن يظهر هذا الرجل من جديد في قلب البيت الأبيض، حيث يقود ترامب اجتماعاً يناقش مصير غزة بعد صراع استمر طويلاً استنزف كل الأطراف لمدة ثلاث سنوات. لم يعد الموضوع مجرد محاولة للتهدئة أو لإيجاد ترتيب مؤقت، بل أصبح جزءاً من رؤية أوسع لإعادة التموضع الأمريكي بالمنطقة، وسط فراغ استراتيجي يملأه الآخرون: الروس في سوريا، الإيرانيون في لبنان والعراق، والأتراك في مياه المتوسط.
رغم أنه لا يشغل منصباً رسمياً، يمتلك كوشنر ما هو أكثر خطورة من أي مسؤولية: “علاقة وثيقة بالسلطة والسر”. كونه صهر الرئيس، فإنه يحمل مفاتيح الغرفة التي تحتوي على أسرار تتداخل فيها الأموال بالسياسة والعقائد. لم يكن كوشنر مجرد وسيط بل كان تجسيداً لفكر ينظر إلى الشرق الأوسط كـ “خريطة استثمار”، أكثر من كونه “أرضاً بشرية”.
في هذه اللحظة، أثناء جلوسه مع ترامب ومستشاريه لمناقشة غزة، تتجاوز المناقشات كيفية إدارة الأنقاض، نحو كيفية إعادة تشكيل المعاني. غزة ليست مجرد منطقة محاصرة، بل تمثل عقدة جيوسياسية في مفترق طرق: بين البحر الأبيض المتوسط وصحراء النقب، بين مصر وسيناء، وبين أمل إقامة الدولة الفلسطينية وكابوس التهجير.
تعني العودة إلى كوشنر العودة إلى منطق “الصفقة” وليس “الحل”. فالصفقات لا تبحث عن العدالة، بل عن تحقيق التوازنات. في نظر السياسة الأمريكية، تُقاس العدالة بأرقام على الورق: مساحة الأرض الممنوحة، المبالغ المالية المدفوعة، وعدد الاتفاقيات الموقعة في بلدان بعيدة.
لكن، في خضم كل هذا الضجيج، تبقى غزة، على الرغم من الدمار والجراح، رمزاً لفضيحة أخلاقية كبيرة في العصر الحديث: مدينة صغيرة تصمد أمام القوى العظمى، تعيد تعريف معادلة الردع، وتذكّر الجميع أن السياسة ليست مجرد معادلات رياضية، بل تتعلق بإرادة المقاومة.
قد يعتقد البعض أن عودة كوشنر تشير إلى إحياء مشروع قديم بوجه جديد. ولكن السؤال الأكثر تعمقاً هو: هل يمكن أن تُعيد “صفقة القرن” الحياة بعد أن تحول القرن ذاته إلى “عصر الحروب الصغيرة”؟ هل يمكن لصهر الإمبراطورية أن يبدع فصلاً جديداً في قصص الجغرافيا، أم أنه سيفشل مرة أخرى في ممارسة أسلوب سابقيه: إدارة فلسطين من خلف أبواب مغلقة بدلاً من الاستماع لصمود الناس على الأرض؟
في النهاية، لا تمثل غزة مجرد رقعة في جدول المفاوضات، بل تتجسد فيها معاني الحرية في زمن أصبحت فيه السياسة “معادلات وأرقام”. عودة كوشنر، مهما كانت قوية، ليست سوى محاولة لإعادة تجديد فكرة فاشلة، لأن ما يُكتب بالقرارات في البيت الأبيض غالباً ما يُمحى بالدماء في شوارع غزة.
وإذا كانت “صفقة القرن” في الماضي تمثل مشروعاً لـ “السلام الاقتصادي”، فإن ما يُطرح اليوم لا يعدو كونه “صفقة حرب” باردة تُحاك في خفايا البيت الأبيض على أنقاض غزة. وبين هاتين الصفقتين، تتجلى الحقيقة التي لا تتغير: فلسطين ليست موضوع مفاوضات، بل رمز للمقاومة.
محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.