ستون عامًا من الحضور الخفي| كيف رسخت الإخوان وجودها داخل المجتمع الأمريكي؟.. شبكات نفوذ تمتد لـ6 عقود

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


لم يكن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه المضي في إجراءات تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية مجرد تصريح سياسي عابر، ولا خطوة دعائية في وقت سياسي محتدم. فقد أعاد هذا التصريح فتح واحد من أكثر الملفات تعقيدًا داخل واشنطن، وهو ملف نفوذ الإخوان الممتد منذ ستة عقود داخل المجتمع الأمريكي، وكيف استطاعت الجماعة بناء شبكة مؤسسات ومسارات تأثير قانونية ودينية واجتماعية جعلت كثيرين داخل أجهزة الأمن ومراكز القرار ينظرون إليها باعتبارها “ظاهرة رمادية” يصعب تصنيفها بين العمل الدعوي والاجتماعي من جهة، والخطاب الأيديولوجي المتشدد من جهة أخرى.

التفاعل السياسي والأمني الذي أعقب تصريحات ترامب لم يكن سوى انعكاس لحجم القلق الذي يراه مراقبون نابعًا من حضور الجماعة المتشعب داخل الولايات المتحدة، والذي عاد إلى السطح بقوة مع ازدياد الحديث حول مصير تصنيفها، وتداعيات هذا القرار على الداخل الأمريكي قبل الخارج.

جذور الإخوان في الولايات المتحدة.. من مجموعات طلابية إلى شبكة مؤسسات

يتفق الباحثون على أن جذور حضور الإخوان داخل الولايات المتحدة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، حين بدأت موجات من الطلاب المتأثرين بفكر الجماعة بالوصول إلى الجامعات الأمريكية. هؤلاء لم يحملوا معهم فقط أفكارًا سياسية ودعوية، بل حملوا رؤية واضحة للتمدد المنظم داخل المجتمع الأمريكي، وفق ما يشير إليه معهد هدسون البحثي.

في تلك الفترة، تأسست “جمعية الطلاب المسلمين”، كأول نواة تنظيمية استطاعت لاحقًا أن تتطور إلى مؤسسات أكبر وأكثر تأثيرًا. كانت المهمة الأولى لتلك الهياكل إضفاء شرعية مؤسسية على نشاط الإسلام السياسي داخل البلاد، لكن من وراء ستار ثقافي واجتماعي، يُخفي الانتماء الفكري للجماعة ويحميه.

ومع مرور الوقت، أدرك الإخوان أن البيئة الأمريكية، بتعددها الديني وفضائها الواسع للحريات، يمكن أن تصبح أرضًا خصبة لنمو خطابهم. لكن هذا الإدراك لم يدفعهم إلى العمل بصراحة، بل بالعكس… عزز لديهم فكرة العمل في الظل، وتقديم أنفسهم علنًا كجمعيات ثقافية أو منظمات مجتمع مدني غير دينية.

بحسب وثائق متداولة للجماعة، يعود تأسيس “اتحاد الطلاب المسلمين” عام 1962 إلى مجموعة من أول عناصر الإخوان في أمريكا الشمالية. وفي العام التالي قام شخصان من أبرز المنتسبين للجماعة، أحمد توتونجي وجمال برزنجي، بتأسيس جمعية الطلاب المسلمين بجامعة إلينوي، وهي خطوة كانت بمثابة حجر الأساس لهيكل تنظيمي أكثر وضوحًا وتأثيرًا.

 

مع تزايد أعداد المسلمين في الولايات المتحدة خلال السبعينيات والثمانينيات، انتقلت الجماعة من مرحلة التأسيس الطلابي إلى إنشاء منظومة مؤسسية متشابكة تضم مراكز بحثية، ومنظمات خيرية، ومؤسسات تعليمية، وهيئات تمويلية لعبت دورًا رئيسيًا في شراء عشرات العقارات الخاصة بالمساجد والمدارس الإسلامية.

هذا النفوذ المادي لم يمنح الجماعة قوة مالية فحسب، بل منحها قدرة على التحكم في جزء من البنية التحتية للمجتمع الإسلامي داخل الولايات المتحدة، وهو ما فتح لها الباب لاحقًا لبناء شبكات تأثير تمتد من المؤسسات التعليمية إلى المنظمات السياسية والإعلامية.

كما انخرط الإخوان في مسارات الحوار المؤسسي مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأصبحوا جزءًا من المشهد الذي تلجأ إليه واشنطن عندما تتواصل مع الجاليات المسلمة. وبرز تأثيرهم داخل منظمات شهيرة مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية “كير”، إلى جانب حضورهم في الجامعات والمراكز البحثية.

وفي التسعينيات، تأسست “الجمعية الأمريكية للمسلمين”، والتي اعتبرها الخبراء الواجهة العلنية الأكبر للإخوان داخل الولايات المتحدة، بعدما تحولت إلى مظلة تضم عشرات المراكز والمساجد والأنشطة المجتمعية.

شبكات نفوذ تثير القلق.. مدارس ومراكز قانونية وتمويل خارجي

يرى المحلل السياسي الأمريكي وعضو الحزب الجمهوري ماك شرقاوي أن تمدد الإخوان داخل الولايات المتحدة لم يكن طارئًا، بل مخططًا منذ ستينيات القرن الماضي عبر شبكة ضخمة من الجمعيات غير الهادفة للربح استخدمتها الجماعة كواجهة لأنشطتها الحقيقية.

ويشير شرقاوي إلى أن الجماعة باتت تمارس نفوذًا مباشرًا على مجتمع مسلم يقدّر بنحو 15 مليون شخص داخل الولايات المتحدة، بينهم 5 ملايين من أصول عربية. ويضيف أن التنظيم الدولي للجماعة ضخ تمويلات خارجية ضخمة لدعم ذراعها القانوني في الولايات المتحدة، عبر مؤسسات تمتلك طواقم محامين متخصصين يعملون على مقاومة القرارات الحكومية عبر الثغرات القانونية.

وبحسب تقديراته، تسيطر الجماعة بشكل غير مباشر على ما يقرب من 300 مدرسة إسلامية، إضافة إلى حضور قوي داخل 8700 مسجد. ورغم أن المنتسبين لتلك المؤسسات لا يعلنون انتماءهم التنظيمي، إلا أن الهيكل الداخلي يعمل وفق تنسيق محكم يخدم الأهداف العامة للجماعة.

ويرى شرقاوي أن قرار حاكم تكساس غريغ أبوت بحظر الجماعة على مستوى الولاية، إلى جانب مشاريع القوانين المطروحة داخل الكونغرس، جاءت في سياق قلق متزايد داخل الإدارة الأمريكية من محاولات الإخوان “تأسيس مجتمعات موازية” قد تشكّل نواة لدولة داخل الدولة، وهو ما دفع ترامب لإطلاق تصريحاته حول التصنيف الإرهابي.

 

من جانبه، يرى ريتشارد تشاسدي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، أن قطاعًا واسعًا من الأمريكيين بات يعتبر الإخوان منظمة إرهابية، مستندين إلى تاريخ الجماعة وخطاباتها التي اقتربت عدة مرات من دائرة العنف، إن لم تتجاوزها في بعض الحالات.

ويشير تشاسدي إلى أن خطوة ترامب تحمل معاني تتجاوز الساحة الداخلية الأمريكية، فهي أيضًا رسالة دعم مباشرة لدول الشرق الأوسط التي سبقت واتخذت إجراءات بحظر الجماعة. ويعتقد أن واشنطن ربما أصبحت أكثر انسجامًا مع تلك الدول فيما يتعلق بالنظر إلى الإخوان بوصفهم كيانًا سياسيًا يحمل أجندة تتجاوز العمل الدعوي والاجتماعي.

 

الجدل الذي عاد اليوم إلى واشنطن بشأن الإخوان ليس خلافًا سياسيًا عابرًا، بل هو مواجهة مفتوحة بين دولة تحاول احتواء تنظيم يمتد داخل عمق مجتمعها منذ ستين عامًا، وتنظيم وجد في البيئة الأمريكية فرصًا للانتشار والحضور المؤسسي.





‫0 تعليق

اترك تعليقاً