كتب الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف منشورًا جديدًا قال فيه: (مُلتفِتٌ لا يَصِل) أصلٌ كبير من أصول الأدب مع الله تعالى، فإذا كُنَّا في طريق، وأردنا أن نصل إلى نهايته، فعلينا أن نسعى، وأن نسير فيه غيرَ ملتفتين عن يسارنا أو عن يميننا؛ فلو سرتَ مثلًا في طريقٍ مليءٍ بالمُبهرات، وبالأضواء، وبالفاترينات… إلخ، فوقفتَ عند كلِّ فاترينة تُشاهِد، وتدخل المتجر، وتسرح في الداخل، فإنَّ العُمر يضيع في هذه الالتفاتات، والأعمار تتفاوت، والزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك، قال الإمام الشافعي: (سِرتُ مع الصوفية فاستفدتُ منهم أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك).
الملتفت لا يصل
وتابع: ومن هنا وجب أن يكون العمل خالصًا لله، لا ألتفتُ إلى الأنوار، ولا إلى الأسرار، ولا إلى الملك، ولا إلى الملكوت، ولا إلى التجليات، ولا إلى غير ذلك، إنما المقصود هو الله.
وأشار إلى أن من أجل ذلك إذا ذكر العابدُ ربَّه فإن الذِّكر يُجلِّي قلبَه، ويجعله كالمرآة، وإذا صار القلبُ كالمرآة انعكَسَت عليه أنوارُ الربوبية، وانعكاسُ أنوار الربوبية يحدث لذَّةً عجيبة، ليس لها مقابلٌ في اللغات بحيث يمكن أن نُشبِّهها، أو أن نتكلَّم عنها وحولها، ولا يمكن أن ننقل كنهها، ولا يعرفها إلا من جرَّبها؛ فإن من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ولا يمكن أن نعرِف إلا بالتجربة، وبترويض النفس.
أول خطوة فى الطريق إلى الله
وبين ان الذِّكر أولُ خطوةٍ في الطريق، وهو يؤدِّي إلى صقل القلب، ويجعل القلبَ كالمرآة، وملتفتٌ لا يصل؛ فإذا ذكرتَ الله، فحدَث لك خارق، فانشغلتَ بهذا الخارق، فقد دخلتَ في المبهرات، وبدأتَ في الالتفات، وهذا هو بدايةُ الانحراف، حيث انشغلتَ بالمُبهرات، فتكونُ بذلك غيرَ مخلِصٍ مع الله.
الذكر عماد القلب
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الذِّكرُ هو عبادةُ القلب، التي يَصْلُحُ بها ويطمئنّ، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
واستشهد جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ». فإذا اطمأنَّ القلبُ صَلُح، وبصلاحه يَصْلُحُ سائرُ الجسد؛ فالذِّكرُ عِمادُ القلب، والقلبُ عِمادُ الجسد.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». فقلبُ المؤمن يَحْيَا بذكر الله تعالى، وبحياة القلب يحيا سائرُ الجسد.
وعلاقةُ الذكر ببقية العبادات كعلاقة الشجر بالأرض؛ فلا يمكن غرسُ شجرةٍ بغير أرضٍ تُغرس فيها. قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾.
وعند الإحرام بالصلاة يبدأ المصلي بـ«التكبير»، وإذا شرع في صلاته بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، يُباهي الله تعالى به ملائكته ويقول: «ذَكَرَنِي عَبْدِي». فالذِّكرُ هو الإطارُ الجامعُ، والبيئةُ الطيبةُ التي تنمو في رحابها سائرُ العبادات.
والأمرُ بالذكر أمرُ محبٍّ لمحبوبٍ، فإذا أحبَّ المرءُ منا أحدًا طلب منه أن يذكره ـــ ولله المثل الأعلى ـــ فالذِّكرُ أمارةُ المحبة؛ فما من محبٍّ وهو لاهٍ عن محبوبه. ولذلك قال العلماء: «الذِّكرُ منشورُ الولاية».
وقال العارف بالله سيدي عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى: «وأجمع القومُ على أن الذكر مفتاحُ الغيب، وجاذبُ الخير، وأنيسُ المستوحش، ومنشورُ الولاية، فلا ينبغي تركُه ولو مع الغفلة، ولو لم يكن من شرف الذكر إلا أنه لا يتوقّت بوقتٍ لكان ذلك كفايةً في شرفه؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾. قالوا: ما ثَمَّ أسرعُ من فتح الذكر، وهو جامعٌ لشتات صاحبه، وإذا غلب الذكرُ على الذاكر امتزج بروح الذاكر حبُّ اسم المذكور». [الأنوار القدسية]
فالطريقُ إلى الله تعالى أساسُه الذكر؛ بدايتُه ذكر، وأوسطُه ذكر، ومنتهاه ذكر؛ حتى يفنى الذاكرُ في المذكور، وحتى يصير ذاكراً في حضرته وفي غيبته، في صحوه وفي نومه، حتى يفنى بمن يذكر عن ذكره.