[التطبيع بين سوريا وإسرائيل: توازن السلطة وصعود المقاومة من جديد]

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

سورية في مفترق الطريق: بين التطبيع والمقاومة

يعيش المجتمع السوري مرحلة تاريخية حرجة، حيث تتداخل الأحداث السياسية والعسكرية، وتتقاطع الجوانب الداخلية مع الإقليمية. وفي خضم هذا الوضع، برز حدثان رئيسيان في الصدارة، يحملان دلالات عميقة: الأول هو اللقاء الرسمي بين وزير خارجية سورية الجديد ونظيره الإسرائيلي في العاصمة الفرنسية باريس تحت الرعاية الأمريكية. والثاني هو اعتراف الجيش الإسرائيلي بحدوث عملية نوعية استهدفت جنوده في منطقة جبل الشيخ بالجولان المحتل. هذان المشهدان المتناقضان يُختصران التحولات الراهنة: تطبيع معلن أمام العلن، ومقاومة تبزغ في الخفاء.

إعادة رسم التحالفات: دخول سورية في نادي المطبّعين

إن الإعلان عن اللقاء الرسمي لم يكن مجرد تصرف بروتوكولي، بل هو بمثابة إعلان لدخول سورية الجديدة في صفوف الدول المطبّعة. بعد سنوات من التصريحات المعادية والتأكيد على رفض أي تواصل مع الاحتلال، أقدمت الوكالة السورية الرسمية على الإعلان عن اللقاء في باريس، مما يفتح الباب لمرحلة جديدة يتم تحديد ملامحها في العواصم الغربية والإقليمية. الأهم من ذلك، أن أحمد الشرع، القادم من خلفية جهادية متطرفة، يقود هذا المسار، مما يعكس تحولًا جذريًا نحو البراغماتية السياسية باسم “المصلحة الوطنية”.

التطبيع: أكثر من مجرد اتفاقات دبلوماسية

لكن التطبيع لا يقتصر فقط على فتح السفارات أو تبادل التمثيل الدبلوماسي، بل يُوسع نطاقه ليشمل تفاهمات أمنية حساسة للغاية. تشير المعلومات إلى وجود اتفاقات تشمل القضايا اللبنانية والعراقية واليمنية، بالإضافة إلى الوضع في قطاع غزة. ما يحدث الآن ليس مجرد علاقات ثنائية، بل هو إعادة هيكلة للمنطقة وفق رؤية أميركية-إسرائيلية تهدف إلى تحويل سورية من ساحة مواجهة إلى ساحة حماية للكيان الإسرائيلي. وهذا هو الخطير، لأن هذه الترتيبات الأمنية قد تكون أكثر خطرًا من أي معاهدة سلام معلنة.

الاعتراف الإسرائيلي: تغيير المعادلة على الأرض

في الجانب الآخر، جاء تأكيد الجيش الإسرائيلي بنجاح عملية في جبل الشيخ ليقلب الموازين. البيانات الرسمية التي تحدثت عن انفجار “قنبلة قديمة” تبدو ضعيفة أمام العدد الكبير من الإصابات، حيث تعرض سبعة جنود للإصابات، أربعة منهم في حالة حرجة. الجيش الإسرائيلي، الذي يمتلك عددًا هائلًا من الخبراء، لا يمكن أن يقع في هذا الفخ بسهولة. كل المؤشرات تدل على أننا نشهد عملية مقاومة منظمة، وليست مجرد حادث عابر. وقد زاد من الشكوك إعلان إسرائيل عن اعتقال خلية تحوز أسلحة واتهامها بمساعي التهريب إلى لبنان، مما يعزز فرضية وجود حركة مقاومة ناشئة في الجنوب السوري.

رمزية جبل الشيخ: رسالة استراتيجية للمقاومة

دلالات جبل الشيخ ليست بسيطة، فمَن يسيطر على قمته يمتلك مفاتيح التحكم في فلسطين ولبنان وسورية. بدء العمليات من تلك المنطقة يعني أن المقاومة اختارت نقطة انطلاق مرتفعة لتأكيد وجودها. ورغم أن هذه البداية قد تبدو متواضعة، إلا أنها تحمل رسالة استراتيجية قوية: طريق المقاومة لا يزال مفتوحًا حتى مع تغير التحالفات.

الإسلاميون في مأزق: انقسام داخلي حول التطبيع

تجد الفصائل الإسلامية نفسها في أزمة. بعض قادة الإخوان المسلمين سارعوا إلى التبرؤ من التطبيع، معتبرين إياه خيانة واضحة، في مسعى للحفاظ على ما تبقى من شعبيتهم. بيد أن هذا التبرؤ يكشف انقسامًا داخليًا: فريق براغماتي يرى أهمية التكيف مع الترتيبات الجديدة، وفريق آخر عقائدي يتمسك بأن التطبيع يعد خرقًا للثوابت. وبالتالي، تعكس هذه الفجوة مأزقًا أعمق: كيف يمكن لحركات تبنت شعار “تحرير فلسطين” التعامل مع سلطة خرجت من نفس رحمها بينما تتبنى تناقضًا صارخًا تجاه خطاباتها؟

الوضع الإقليمي: خطة استراتيجية معقدة

على الصعيد الإقليمي، يبدو المشهد أكثر وضوحًا مما سبق. يشكل الرباعي الجديد (واشنطن – تل أبيب – أنقرة – عواصم عربية) الثقل الذي يقوم بتشكيل ملامح السلطة السورية الحالية، بهدف إعادة إدماج دمشق في مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. بينما تجد إيران نفسها مهمشة، تواصل روسيا، المنغمسة في الحرب الأوكرانية، صمتها للحفاظ على قواعدها في المنطقة الساحلية. وفي السياق نفسه، يبدو مستقبل لبنان على المحك، إذ لا تزال المقاومة اللبنانية تُعتبر عقبة رئيسة أمام هذا المشروع، مما يثير التساؤلات حول إمكانية أن يؤدي التطبيع السوري إلى تطويق المقاومة اللبنانية.

مخططات الهجرة: تهجير الفلسطينيين إلى سورية الجديدة

الأخطر من كل ذلك هو التسريبات التي تتحدث عن مخططات لتهجير مئات الآلاف من أهالي غزة إلى سورية الجديدة بتمويل أمريكي-غربي. الفكرة التي كانت تُعتبر هامشية أصبحت الآن موضوع نقاش جدي. وإذا كان هذا صحيحًا، فسنكون أمام أخطر فصول تصفية القضية الفلسطينية، حيث تتحول سورية من “دولة مواجهة” إلى “مركز توطين”.

ختامًا: المقاومة متجددة رغم الخيانة

في الختام، تظل عملية التطبيع علامة على الخيانة، مهما تظاهر النظام بشعارات “السلام” و”المصلحة الوطنية”. إنها تمثل إثما سياسيًا وأخلاقيًا يشرعن الاحتلال ويعيد تشكيل المنطقة وفق إرادة واشنطن وتل أبيب. لكن، على الرغم من ذلك، تظل المقاومة حية. قد تُقمع في بعض الأوقات، وتُحاصر في أوقات أخرى، لكنها تعود دائمًا من كل الأزمات. وما حدث في جبل الشيخ هو الدليل الواضح على أن جذوة المقاومة لا تزال مشتعلة.

المستقبل مفتوح على احتمالين: إما أن تتحول سورية بالكامل إلى دولة مطبِّعة ضمن الطوق الإقليمي الذي يحمي إسرائيل، أو أن تستعيد المقاومة الشعبية أو الفصائلية عافيتها، معارضةً أن تُختزل القضية في اتفاقات أمنية ومبادلات سياسية. أي من المسارين سيسود؟ الزمن وحده سيظهر الجواب.

الأكيد هو أن ما حدث في جبل الشيخ ليس مجرد حادث عابر، بل هو رسالة قوية بأن صفحة المقاومة لم تُطوَ، وأن الشعب السوري – بغض النظر عن تغير أنظمته – لن يقبل بأن يصبح حارسًا لحدود الاحتلال.

التطبيع خيانة، بينما المقاومة هي القدر. وبينما تسير سورية في طريق محفوف بالمخاطر، يعلمنا التاريخ أن الشعوب أقوى من الطغاة، وأن الشرارات الصغيرة قادرة على إشعال نيران كبيرة. وقد تكون جبل الشيخ الشرارة الأولى…!!

— محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.

‫0 تعليق

اترك تعليقاً