زيارة المبعوث الأمريكي إلى لبنان: قضايا دون اعتبار الاحترام
في مشهد يوم الثلاثاء في قصر بعبدا، كان خروج المبعوث الأمريكي “توم باراك” إلى وسائل الإعلام بمثابة عرض غير عابر، حيث استخدم عبارات تبدو أكثر شبهاً بلغة الشارع من أسلوب الدبلوماسية. وكأنه يتحدث إلى جمع غير مدرك، لا إلى نخبة صحفية في دولة تُعتبر منارة حضارية في المنطقة. الملاحظات التي أدلى بها باراك لم تكن زلة لسان، بل تعكس عقلية راسخة في السياسة الأمريكية: أينما ينظرون إلى شعوب الشرق الأوسط، يعتبرونهم عائقاً أمام المشاريع الأمريكية.
لبنان: أرض الحضارة لا ينبغي أن توهان
قد تذكرني تصرفات باراك بتصريحات هنري كيسنجر خلال زيارته الأولى للمنطقة في منتصف السبعينيات، حيث وصف الشرق الأوسط بأنه “منطقة متعجرفة”. ومن هنا، بدأ كيسنجر بتخطيط النفوذ الأمريكي وفصل النزاعات بين العرب وإسرائيل. بينما جاء باراك بفكر “السمسار تفتيش”، معبراً بوضوح عن ما تخفيه أمريكا من نوايا.
لكن الغريبة أن باراك لم يكن يدري أنه يتحدث في دولة لها تاريخ مجيد، كانت يوماً مركز حضارة الفينيقيين، الذين أسسوا الأبجدية ونسجوا التجارة البحرية. لبنان ليس مجرد دولة بلا تاريخ، بل هو موطن أحفاد القوم الذين أسسوا المدن العظيمة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
فما الذي يمكن أن يعيه باراك عن أن أمريكا لم يكن لها تاريخ إلا في العقود الأخيرة، وهي تستورد العقول والموارد، وتصنع الحروب والانقلابات؟
إن وقاحة باراك في حديثه ليست مجرد اعتداء على الإعلام اللبناني، بل هي تجسيد لما تعتقده واشنطن عن لبنان: مجرد قطعة شطرنج على رقعة أكبر، تتحرك وفق المعايير بين إسرائيل وإيران وسوريا.
السؤال المطروح: ما الذي تريده أمريكا من لبنان حالياً؟
هل تسعى إلى دولة ضعيفة تفتقر إلى المقاومة بعد تراجع نفوذ حزب الله؟ أم أن هناك رغبة في استغلال الأزمة الاقتصادية والسياسية لإعادة فرض السيطرة المالية والأمنية؟ أو ربما تسعى لتطويع لبنان كجزء من تسويات إقليمية تتشكل بين تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم العربية؟
بغض النظر عن تشديد باراك وتأثير كلماته، فإنها تكشف بوضوح أن واشنطن لا ترى في لبنان سوى ساحة اختبار جديدة بعد تراجع المقاومة. لكن ما يجهله باراك ومن هم على شاكلته أن التاريخ يعلّمنا: الشعوب التي أنشأت الحضارات لا يمكن محو وجودها من خلال عبارات مستفزة، ولا يُمكن كسرها من خلال مبعوث غليظ، حتى وإن كان من البيت الأبيض. يبقى لبنان، رغم جراحه، أقدم من أمريكا، وأعمق من أي مبعوث عابر، وأذكى من سمسار سياسي يتوهم أنه يمتلك مفاتيح مستقبله.
ولعل المأساة في غزة تعزز رؤية أن من يتحدثون عن الحضارة والإنسانية، هم أقل من يحق لهم إلقاء دروس في التحضر.