العالم الرقمي وتأثيره على الرأي العام
في عصر تتداخل فيه السياسة مع الإعلام بصورة غير مسبوقة، لم تعد وسائل الإعلام التقليدية كالتلفزيون والصحف الورقية هي الرائدة في تشكيل الرأي العام، بل أصبح من الممكن لنا أن نشاهد ظهور منصات جديدة تُعبر عن آراء الجماهير عبر شاشات هواتفهم.
صعود وسائل التواصل الاجتماعي كقوة مؤثرة
تُعتبر منصات التواصل الاجتماعي الأداة الخفية التي تعيد برمجة التصورات العامة، ولها تأثير هائل على اختيارات الشباب وتوجهاتهم السياسية، لا يستهان به في كثير من الأحيان مقارنةً بالخطابات الرسمية أو الوسائل التقليدية. لقد أصبح “الترند السياسي” ظاهرة تعبر الحدود، مُحدثًا صراعات سياسية ويؤدي إلى سقوط رموز بارزة، ويعرض أجندات مختلفة أمام صانعي القرار. نحن في خضم ثورة هادئة، تتزعمه الخوارزميات بدلاً من الجدلية المنطقية أو الحوار المباشر.
تحديات المعلومات الرقمية
يشاهد الشباب العربي السياسة عبر مقاطع فيديو قصيرة، غالبًا ما تُقدم بتركيز عاطفي وتجذب الانتباه دون أن تعطي السياق الكامل. هنا تكمن المشكلة، حيث تتيح هذه المنصات مساحة واسعة للتعبير الحر، لكنها أيضًا تحمل إمكانية كبيرة لنشر معلومات مضللة وصناعة أوهام. يمكن أن تترك مقاطع قصيرة، لا تتجاوز الدقيقة، أثراً كبيرًا على وضوح فكري لمجموعة كبيرة من الشباب، حتى وإن كانت تلك الأفكار مبنية على معلومات غير دقيقة أو مختزلة.
الضغط الرقمي على الحكومات
وتتفاقم خطورة المسألة عندما تتحول تلك الثورات الرقمية إلى أدوات ضغط على السلطات، تجبرها على اتخاذ قرارات لمواجهة التطورات السريعة في الشارع الافتراضي. هذا الشارع لا يخضع لمعايير المساءلة أو الواقعية، مما يُعقد الأمور أكثر.
الاستجابة الدولية والتحولات الإعلامية
أدركت القوى الكبرى هذا التحول مبكرًا، وسعت لاستغلال المنصات الرقمية كأسلوب ناعم لإعادة تشكيل الصورة الجيوسياسية. من الحملات الانتخابية في الدول الغربية إلى الصراعات الإعلامية في منطقتنا، برزت وسائل التواصل كساحة جديدة للصراع، حيث تحدد الخوارزميات إيقاع الأحداث وتختار ما يجب أن نراه ونتجاوزه. ومع تزايد عزوف الشباب عن القراءة العميقة، تصبح الحقائق محاطة بمحتوى بصري جذاب لكنه يفتقر إلى العمق، مما يجعل الرأي العام هشًا وعاطفيًا أكثر من كونه عقلانيًا.
السؤال الجوهري: تحقيق التوازن بين حرية التعبير والرقابة
يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن تنظيم الفضاء الإعلامي من دون المساس بحرية التعبير؟ فالرقابة التقليدية لم تعد مجدية، إذ يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية وتُعمق شعور الشك، مما يدفع الأجيال الشابة للبحث عن بدائل أكثر انفتاحًا. ما نحتاجه اليوم هو إيجاد توازن عادل يبني وعيًا إعلاميًا مستدامًا، وتعليم الأجيال مهارات التحقق من المعلومات، وتعزيز دور المؤسسات التعليمية والثقافية في ترسيخ التفكير النقدي، مع ضرورة إلزام المنصات الرقمية بأخلاقيات مسؤولة تفرض قواعد على الخوارزميات المؤثرة على الرأي العام.
أهمية التنسيق لتنظيم الفضاء الإعلامي
إذا تركنا هذا الفضاء بلا توافقات، ستظل السياسة خاضعة للاتجاهات، وستتحول الحكومات إلى رهينة للعواطف المتقلبة. التحدي الحقيقي هو إيجاد توازنٍ يضمن حرية التعبير مع الحد من التضليل لحماية استقرار الدول وسيادتها في زمن تسيطر فيه الشاشات على الواقع أكثر مما تسيطر الدبابات. بات الإعلام الجديد أداة سيادية تحمل من المخاطر ما يساوي النفط أو الأسلحة، ومن يتجاهل هذه الحقيقة سيواجه عواقب وخيمة بقرارات تُتخذ في فضاء رقمي بلا قيود.