تأملات في إرث عبد الناصر: بين الفخر والانتقادات
في فترة يسيطر فيها الالتباس والانفصال عن الهوية الأصلية، نجد أن ما كان يُفترض أن يكون مصدر اعتزاز وفخر يعدّ عبئًا للبعض. إذ يظهر أن شريحة ليست بقليلة من الشباب في هذا الوطن قد تخلت عن إحدى أكثر العصور الوطنية بريقًا في تاريخ مصر الحديث، وكأنها تحمل لعنة تتجنبها، بدلاً من اعتبارها محطة مميزة في مسار أمة كانت تحاول التخلص من عبء الاستعمار.
تجارب تحت المجهر
من الأمور المثيرة للدهشة أن غالبية الذين يقودون الهجوم على تجربة جمال عبد الناصر هم في الواقع من استفادوا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من إنجازاته. فالأبناء الذين تحرروا من براثن الإقطاع، وأحفاد العمال الذين عاشوا تحت وطأة الاستغلال، يكيلون الانتقادات للزعيم الذي ساهم في استعادة كرامتهم وإنسانيتهم.
أبعاد تاريخية وفكرية
إن الهجوم المنظم على عبد الناصر لا يُعد نتيجة لوجهة نظر نقدية فحسب، بل هو يعكس أيضًا عقدًا طبقيًا عميقًا يستشعره البعض. إن إدانة المرحلة الناصرية تمثل هروبًا من مواجهة التاريخ الشخصي الذي تملكه كل عائلة. فالأكثر سهولة هو انتقاد تلك الفترة بدلاً من الاعتراف بالماضي الذي يحمل في طياته الكثير من الألم والذل.
الإنجازات تحت المجهر
لا ينكر أي شخص الأخطاء التي ارتكبت في تلك الفترة، فعبد الناصر لم يكن نبيًا وتجربته ليست خالية من الزلل. لكن اختصار تجربة وطنية عظيمة في عبارات سطحية مثل “أفقر مصر” و”ضيَّع الجنيه” هو أمر يتجاهل التاريخ الحقيقي. الكلمات التي تُستخدم بلا تحليل أو مقارنة تعكس عملًا دعائيًا مستمرًا لأجل تشويه الحقبة، لا لتصحيح المفاهيم.
تغييب الذاكرة الوطنية
والأكثر إثارة للقلق، هو نجاح هذه الحملات في محو ذاكرة الناس، وجعل الانتماء إلى فترة التحرر الوطني عيبًا. مفهوم السد العالي، وتأسيس المصانع الكبرى، أصبحا غائبين عن الوعي العام. وبدلًا من ذلك، تسود عبارات مثل “الحريات المصادَرة” وكأن الوطن مقاس فقط بمؤشرات اقتصادية.
طرح الأسئلة الصعبة
ثم يطرح السؤال المُلح: ماذا قدم هؤلاء النقاد للوطن؟ هل كان لهم مشروع وطني بديل؟ هل قاموا ببناء شيء يخدم الوطن، أم اكتفوا بإلقاء الانتقادات من بعيد؟ إن توجيه اللوم لمن حملوا العبء أمر سهل، لكن الإنتاج الفعلي لأفكار جديدة هو الأصعب.
الواقع الحالي وذكراه
يجب علينا أيضًا أن نتساءل: هل من الأخلاق أن يجلس المرء خلف التكييف وينبش في الماضي، مُسلطًا الضوء على تجربة كانت لها آثار عظيمة؟ عبد الناصر، رغم قصر عمره، ترك أثرًا لا يزال يُستدعى في أوقات الأزمات. لقد كان له دور بارز في تشكيل ذاكرة الأمة، والجدل حوله لا يزال حيًا.
عظة من التاريخ
تاريخيًا، نشهد مشهدًا مدهشًا عندما خرجت جماهير من كل حدب وصوب لتودع رجلًا عُرف برؤية وطنية. جنازته كانت حدثًا غير عادي، فعُدّ توديعًا لجيل كامل. عبد الناصر لم يكن كائنًا عابرًا في التاريخ، بل كان رمزًا لنضال الأمة.
تحديات الحاضر
ومع ذلك، نجد أن بعض الشخصيات التي كان ينبغي أن تحترم تاريخ الوطن، تختار السخرية من عبد الناصر في مراحل متأخرة من حياتها. ومن المؤسف أن يُعيد شخص بارز مثل عمرو موسى التنقيب في ماضي زعماء تاريخيين فقط ليعيد لنفسه شيئًا من الأضواء.
دعوة للإنصاف
لا نرغب في تمجيد الماضي بلا حدود، لكن نحتاج إلى الاعتراف بالإنصاف التاريخي. المصالحة مع الذكريات المؤلمة يمكن أن تكون أكثر نبلًا من ممارسة جلد الذات، والاعتراف بفضل من ساهم في التحرر يعدّ خطوة إيجابية.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية
[email protected]